أن تكون مصابًا لا يعني أنك مذنب: حين تكون نظرة المجتمع أقسى من المرض نفسه

دراسة نوعية حديثة تكشف تجربة المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية في السعودية، وتستعرض مخاوفهم من الوصمة، العزلة، والتمييز الوظيفي، مع تسليط الضوء على دور الرحمة والدعم النفسي في التكيّف والنجاة.

أن تكون مصابًا لا يعني أنك مذنب: حين تكون نظرة المجتمع أقسى من المرض نفسه
بين الخوف والرحمة: صوت المصابين بفيروس HIV في السعودية


مقدمة أخلاقية

الرحمة ليست مجرّد شعور عابر يتلبّس الإنسان لحظة تأثره بمأساة الآخر، بل هي خُلق إنساني نبيل يتجاوز حدود الإدراك والتعاطف إلى مرتبة التفاعل الواعي والمسؤول مع ألم الآخر. فبينما يُعرَّف التعاطف على أنه القدرة على فهم مشاعر الآخرين واستيعابها، فإن الرحمة تمثل درجة أعمق، تُترجم فيها المشاعر إلى أفعال. إنها التزام أخلاقي باللين والرفق، وامتناع رصين عن إصدار الأحكام المتعجلة؛ إدراكًا لما قد تخلّفه تلك الأحكام من ندوب نفسية.

الرحمة تعني أن تمتنع عن زيادة معاناة الآخرين، لا لأنك مطالب بذلك فحسب، بل لأنك تستبصر حقيقة الإنسان بوصفه كائنًا هشًا بطبعه، وكل فرد فيه يحمل نصيبه من الألم الذي لا يُرى. قال الله تعالى: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"، وقال أيضًا: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ". فمن هذا الفهم العميق لطبيعة الوجود الإنساني، تنبع الرغبة في ألا تكون عبئًا على أحد، وأن تُعامل الناس بحسن خُلق، وسِعة صدر، ورحمة، وتعاطف، وامتناع عن التصنيف.

وحين نتحدث عن مكارم الأخلاق، فإننا نتحدث عن جوهر الرسالة الإنسانية قبل أن تكون دينية. فقد قال رسول الله ﷺ: "إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا". وإن من حسن الخلق ألا تُسارع إلى الحكم على الآخرين، وألا تحصرهم في قوالب مسبقة بناءً على لونهم، أو عرقهم، أو منطقتهم، أو قبيلتهم، أو تحصيلهم العلمي، أو حتى مظهرهم الخارجي. فاختلاف الصفات لا ينبغي أن يكون مبررًا لإسقاط التجارب الخاصة على الآخرين، إذ لا يحق لك أن تختصر إنسانًا كاملاً في صورة جزئية صنعتها من مرآتك الشخصية الضيقة.

وفي هذا المعنى، يروى أن أحد الصحابة قتل رجلًا في ساحة المعركة بعدما قال: "لا إله إلا الله"، فقال له النبي ﷺ في عتاب مزلزل: *"أقال لا إله إلا الله وقتلته؟!"، قال: "يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح"، فقال ﷺ: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!". هذه الحادثة ليست مجرد موقف عابر، بل هي دعوة أخلاقية عميقة لرفض الأحكام المبنية على الظاهر، ولإدراك أن جوهر الإنسان لا يُرى بالعين، بل يُدرك بالبصيرة، وأن الخشية من الظلم أولى من التسرّع في إصدار الأحكام.

تأثير الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV) على تجربة المرضى في المجتمع السعودي: دراسة نوعية

في ظل التحديات الصحية والاجتماعية التي تفرضها الإصابة بفيروس نقص المناعة البشري (HIV)، والذي يتطور - في حال إهمال العلاج - إلى مرض الإيدز، تأتي هذه المقالة لتسليط الضوء على دراسة نوعية حديثة نُشرت عام 2024 في "المجلة الدولية للدراسات النوعية حول الصحة والرفاهية"، وأعدّها الدكتور نايف الزهراني والدكتور عبد العزيز المرواني من كلية التمريض بجامعة طيبة. اعتمدت الدراسة على المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي)، وهو أحد المناهج النوعية التي تستهدف فهم التجربة الحياتية كما يعيشها الأفراد أنفسهم، لا كما تُقرأ من الخارج.

جوهر هذا المنهج الفلسفي يكمن في تبني الباحثين لمنظور المشاركين، لا منظوراتهم الذاتية أو الخلفيات المسبقة التي قد تُقحم في التحليل. ولتحقيق ذلك، يتطلب المنهج وعيًا عميقًا بـ "الانعكاسية" (Reflexivity)، أي إدراك الباحث لذاته وتحيزاته وتاريخه المعرفي أثناء عملية البحث.

أُجريت الدراسة من خلال مقابلات معمّقة مع 16 مشاركًا من المصابين بالفيروس (10 ذكور و6 إناث)، بمتوسط زمني للتعايش مع الإصابة بلغ 3.7 سنوات. توزعت خصائصهم المهنية على النحو التالي: سبعة يعملون، خمسة عاطلون عن العمل، امرأتان ربتا منزل، وشخصان متقاعدان.

وقد أفضى التحليل الموضوعي للمقابلات إلى ثلاثة موضوعات رئيسية جسّدت تجربة المصابين، هي: الخوف من المستقبل، اليأس، والتغلب على الشدائد. أما في ما يخص محور "الخوف من المستقبل"، فقد انبثقت عنه أربعة موضوعات فرعية عكست الهواجس الحياتية للمشاركين، تمثلت في: الخوف من نقل العدوى إلى أحد الأحبة، الخوف من الزواج، القلق بشأن الفرص الوظيفية، والخشية من الفضيحة والوصم الاجتماعي.

خلصت الدراسة إلى أن فهم التجربة المعيشية للمصابين بفيروس نقص المناعة البشري داخل السياق الثقافي والاجتماعي السعودي يُعد خطوة جوهرية نحو تمكين مقدمي الرعاية الصحية، والمشرّعين، وصنّاع القرار من تصميم تدخلات صحية ونفسية أكثر شمولًا وإنصافًا، تعزز جودة حياة هذه الفئة، وتحد من التحيزات البنيوية التي تحيط بها.

أصوات من التجربة: كيف عبّر المصابون بفيروس نقص المناعة البشرية عن معاناتهم؟

في عمق التجربة الإنسانية، تبرز كلمات المشاركين في الدراسة النوعية التي أُجريت في جامعة طيبة بوصفها شهادة على المعاناة الصامتة، والهواجس التي تُلازم المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV) في المجتمع السعودي. نستعرض هنا بعض الاقتباسات الأصيلة، التي نُقلت بلغة واضحة، لتجسد أبرز المخاوف النفسية والاجتماعية التي واجهها المشاركون، وتُسهم في إثراء فهمنا للجانب الإنساني من هذه الحالة الصحية المعقدة.

أولًا: الخوف من المستقبل

العنوان الفرعي: الخوف من نقل العدوى إلى أحد أفراد العائلة

المشاركة الأولى (امرأة حامل):
"نقل لي زوجي العدوى في الشهر الثاني من حملي، كنت حزينة على وضعي ومستقبلي، ولكن خوفي الوحيد كان أن ينقل المرض إلى طفلي. كنت أنام وأستيقظ وأنا أدعو الله ألا يُولد هذا الطفل البريء مصابًا بهذا المرض. أخبرني الأطباء وطمأنوني بأن تناول الأدوية يزيد من فرصة ولادة طفلي سليمًا، ولكنني لم أشعر بالطمأنينة إلا بعد ولادته. وعندما أكد لي الأطباء، بعد متابعة مستمرة، أن طفلي بصحة جيدة، حينها فقط... شعرت بالراحة."

العنوان الفرعي: الخوف من الزواج والعزلة العاطفية

المشارك الرابع (رجل أعزب):
"أتمنى لو أتزوج. الجنس غريزة في نفس كل إنسان، كالأكل والشرب والتنفس. بحثتُ عن زوجة، وأخبرتها برغبتي في الزواج، وشرحتُ لها أنني مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية، فرفضت الزواج بي خوفًا من نقل المرض إليها. بسبب هذه التجربة، أخشى الرفض دائمًا. أتمنى أن أجد زوجة سليمة أو مصابة بفيروس نقص المناعة البشرية، مع ذلك، لا أتوقع أن يقبلني أحد."

المشارك الخامس (رجل أعزب):
"العيش بوحدة ممل. أتمنى أن أتزوج، ولكني أخشى الرفض، وأتوقع بنسبة 90٪ أن يُرفض طلبي بسبب إصابتي بفيروس نقص المناعة البشرية."

ثانيًا: الخوف من الفرص الوظيفية

العنوان الفرعي: الخوف من الرفض في بيئة العمل

المشارك السادس (خريج جامعي):
"لديّ شهادة جامعية، وأعمل حاليًا سائق تاكسي. تتوفر عدة وظائف مناسبة، لكنهم يشترطون فحصًا طبيًا عند التقديم. بصراحة، أخشى أن يرفضوني بسبب إصابتي بالعدوى."

المشارك السابع (متقاعد):
"كنت موظفًا في شركة مرموقة براتب مرتفع. ومع ذلك، بعد أن علمتُ بإصابتي بفيروس نقص المناعة البشرية، قررتُ التقاعد مبكرًا خوفًا من اكتشاف جهة عملي لإصابتي، إذ يُجرون فحوصات طبية سنوية لجميع الموظفين."

في سياق المقابلات، لاحظ الباحثون أن عددًا من المشاركين عبّروا عن رفضهم التقدم إلى وظائف جديدة، رغم توفر المؤهلات، والسبب يعود إلى اشتراط الفحص الطبي ضمن شروط التوظيف. لم يكن الخوف من نتيجة الفحص بحد ذاته هو العامل الحاسم، بل كانت نظرات الرفض والتمييز من أرباب العمل هي ما أثقل كاهل المشاركين، لا سيما حين تأتي تلك الإشارات على هيئة سلوك غير مباشر يوحي بالنفور أو الإقصاء.

وقد أشار أحد المشاركين إلى أنه اختار التقاعد المبكر رغم مكانته الوظيفية المرتفعة، خشية أن تكتشف جهة عمله إصابته من خلال الفحوصات الدورية، مما يدل على وجود ثقافة ضمنية من التحيز حتى داخل المؤسسات ذات الطابع المهني الرسمي.

ورغم هذه المخاوف، فإن الإطار القانوني في المملكة العربية السعودية ــ ممثلًا في نظام الوقاية من متلازمة العوز المناعي المكتسب (الإيدز) الذي أقره مجلس الوزراء ــ يوفّر منظومة متكاملة من الحقوق للمصابين، نعرض فيما يلي أبرز موادّه ذات الصلة، كما وردت في اللوائح التنظيمية:

مواد نظام الوقاية من الإيدز ذات الصلة:

  • المادة التاسعة:
    "لا يجوز فرض اختبار الإيدز إلا في الحالات الآتية: المتقدمون للكليات والمعاهد الصحية، والوظائف الصحية أو العسكرية، وفحوصات ما قبل الزواج، والمرأة الحامل، وأي حالة يحددها الوزير بالتنسيق مع المجلس الصحي السعودي."

  • المادة الثامنة:
    "لا يجوز منع المصاب من التمتع بحقوقه النظامية أو فصله من عمله بسبب مرضه، إلا إذا ثبت تعمده نقل العدوى."

  • المادة الحادية والعشرون:
    "يُحظر أي فعل أو امتناع يشكل تمييزًا ضد المصابين يؤدي إلى الحط من كرامتهم أو الانتقاص من حقوقهم."

  • المادة الرابعة:
    "لا يجوز لأي جهة صحية الامتناع عن تقديم الرعاية الطبية اللازمة لأي مصاب بسبب إصابته."

  • المادة السادسة عشرة:
    "تلتزم الجهات الصحية بالحفاظ على سرية معلومات المصاب، ولا يجوز إفشاؤها إلا ضمن الحالات التي يحددها النظام."

إن هذا التناقض بين النص القانوني الواضح والممارسات الاجتماعية والمهنية القائمة، يكشف عن فجوة يجب التعامل معها ليس فقط عبر التنظيم القانوني، بل عبر إعادة تشكيل وعي المؤسسات، والتصدي للصورة النمطية التي تُلصق بهؤلاء الأفراد. فالمعركة هنا ليست صحية فقط، بل اجتماعية وأخلاقية في جوهرها.

ثالثا: الخوف من الفضيحة والوصمة الاجتماعية

العنوان الفرعي: الصمت المفروض خوفًا من الانكشاف

أظهرت نتائج الدراسة أن أحد أشد المخاوف التي عبّر عنها المشاركون تمثّلت في الخوف العميق من الفضيحة، إذ اعتبروا أن الوصمة المرتبطة بالإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية لا تقتصر على الإقصاء أو التنمر، بل تمتد إلى التحقير الصامت، والاشمئزاز غير المعلن، و"نظرات الشفقة المزعجة" من الآخرين.

وقد بيّن عدد من المشاركين امتناعهم عن الإفصاح عن تشخيصهم حتى للممارسين الصحيين، خشية أن تتغير نظرة الطبيب أو يتعامل معهم بوصفهم مصدر قلق أو عدوى، رغم وعيهم بأن الجهات الصحية مُلزَمة بالسرية المهنية بموجب النظام.

المشارك التاسع (رجل):
"أسناني توجعني أحيانًا، ولكني لا أرغب بالذهاب إلى طبيب الأسنان، لأني لا أرغب أن أخبره أني مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية، لكيلا تتغير نظراته تجاهي، أو يشعر بالتقزز مني."

العنوان الفرعي: الخوف من رؤية الآخرين داخل المرافق الصحية

كما أشار عدد من المشاركين إلى خوفهم الشديد من التعرّض للانكشاف أثناء مواعيد المتابعة الطبية، لا بسبب الإجراءات نفسها، بل بسبب احتمال أن يراهم أحد من معارفهم في العيادات أو ممرات المستشفى، رغم الإجراءات المشددة التي تتخذها الجهات الصحية للحفاظ على سرية المراجعين.

المشارك العاشر (رجل):
"كلما حضرتُ موعدي للمتابعة في المستشفى، أخشى أن أجد من يعرفني ويقابلني في غرفة الانتظار أو ممرات المستشفى. أعلم أن المستشفى يتعامل معي بسرية، وحتى العيادة لا تحمل أي علامة تُشير إلى أنها مختصة بفيروس نقص المناعة، بل إنها تغيّر موقعها باستمرار. مع ذلك، أخشى أن يكتشف أحدهم أمري."

العنوان الفرعي: قلق الإجازة المرضية

ولم يكن الخوف محصورًا في المرافق الطبية، بل امتد إلى المراسلات الإدارية والوظيفية. فقد عبّر أحد المشاركين عن امتناعه عن طلب إجازة مرضية أو إرسال تقارير طبية خوفًا من انكشاف تشخيصه بسبب طباعة اسم "عيادة الأمراض المعدية" على التقرير الرسمي.

المشارك الحادي عشر (رجل):
"أشعر أحيانًا بالتعب وأرغب في أخذ إجازة مرضية أو إرسال تقرير طبي إلى مديري، لكن اسم العيادة ‘أمراض معدية’ مطبوع على التقرير؛ لذا، أخشى أن يقرأ مديري ذلك، وأن أتلقى نظرات شفقة أو اشمئزاز أو ازدراء منه أو من زملائي."

رابعا: اليأس وفقدان المعنى

العنوان الفرعي: انهيار الأمل بعد التشخيص

من أشد ما توصّلت إليه الدراسة النوعية أن الخبر بحد ذاته كان كافيًا لتحطيم البنية الداخلية للحلم والمعنى لدى أغلب المشاركين. فالإصابة بفيروس نقص المناعة لم تُفسَّر فقط كحالة طبية، بل كعلامة فاصلة بين حياة مأمولة وحياة مؤجلة أو ميتة سلفًا، وهو ما عبّر عنه المشاركون بألفاظ حملت في طيّاتها مشاعر فقدان وانكسار.

المشارك الخامس عشر (رجل):
"آه، عن أي أحلام تتحدث؟ منذ أن علمت أنني مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية، وأنا أحسب الأيام المتبقية من عمري."

المشارك السادس عشر (رجل):
"كانت أحلامي بلا حدود، بعد إصابتي، أصبحت معزولًا اجتماعيًا، وأصبح كل تركيزي منصبًا على نسبة انتشار الفيروس... تبعثرت أحلامي."

خامسا: التغلّب على الشدائد

العنوان الفرعي: الدعم الاجتماعي والإيمان كرافعتين للتكيف

رغم وطأة الخبر وما يرافقه من صدمة نفسية واجتماعية، إلا أن الدراسة كشفت عن بُعد إنساني مشرق تمثّل في قدرة بعض المشاركين على التعايش مع المرض وتجاوز ألمه النفسي والمعنوي. وقد كان العامل الأبرز في هذا التكيّف هو وجود شخص داعم محبّ في حياة المصاب، سواء كان فردًا من الأسرة أو صديقًا مقربًا.

كما أشار كثير من المشاركين إلى أن الإيمان بالقضاء والقدر، واليقين بأن ما أصابهم إنما هو ابتلاء من الله تعالى، كان له دورٌ بالغ الأثر في تهدئة النفس وتعزيز القبول، لا من باب الاستسلام، بل من باب الصبر الواعي والسعي للتكيّف.

أحد المشاركين:
"عندما علمت بنتيجة الاختبار، لم أستطع تحمّل هول الخبر ولم أستطع تقبّله، لكن أخي ساندني، وذكّرني بالله، وساعدني على تجاوز هذه المحنة."

المشارك السابع (رجل متزوج):
"زوجتي، التي توقعتُ أنها ستطلب الطلاق مني بعد إصابتي بفيروس نقص المناعة البشرية، فاجأتني بدعمها، وكانت خير عون لي في التعايش مع هذا المرض والالتزام بالعلاج. لطالما أخبرتني أن فيروس نقص المناعة البشرية مرض مزمن، مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري، وأن تناول الأدوية يُمكّن من التعايش."

المشارك التاسع:
"العودة إلى الله وتذكر أن الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية كانت بأمر الله، ساعدني كثيرًا."

 شجاعة المشاركة وإنسانية البحث

إن هذه الدراسة النوعية، بكل ما حملته من شواهد صادقة وصوت بشري نقي، تُمثّل إسهامًا علميًا وإنسانيًا بالغ الأهمية. لذا، لا يسعنا في ختام هذا العرض إلا أن نتوجّه بالشكر والامتنان لجميع المشاركين الذين تحلّوا بالشجاعة وأتاحوا لنا النظر إلى عالمهم من الداخل، فأوصلوا لنا معاناتهم بصدق، ومكّنونا من رؤية الحياة بعين المصاب، لا بعين المتفرّج.

كما نثمّن الدور البحثي الجريء للدكتور نايف الزهراني والدكتور عبد العزيز المرواني، اللذين طرحا سؤالًا بحثيًا حساسًا ومهمًا، وساهما في تعرية التحيزات الكامنة داخل البُنى الاجتماعية والمؤسسية تجاه هذه الفئة من المرضى.

لقد مكنت هذه الدراسة المجتمع من رؤية المرض لا كوصمة، بل كتجربة إنسانية تحتاج إلى فهم، وتعاطف، وعدالة. وها نحن اليوم، بفضل هذا البحث، نُعيد صياغة وعينا، ونترجم هذه النتائج بلغة عربية واضحة وسهلة لتكون في متناول غير المختصين، كي تصل الرسالة الأعمق: الرحمة، وحسن الخلق، وواجب الكرامة تجاه كل من نشاركه هذا الكوكب، مهما اختلفت أقداره.

ما الذي نحتاجه كي نعود إلى نقطة الاتزان؟

 الرحمة كأرضية مشتركة للحماية والتعافي

رغم وضوح القوانين واللوائح التي تكفل حقوق المصابين بفيروس نقص المناعة البشري، فإن جوهر المشكلة لا يكمن في النصوص، بل في النفوس. فالمعركة التي يخوضها المصابون ليست طبية فحسب، بل اجتماعية وأخلاقية وفردية، حيث تكمن التحديات في نظرات الآخرين، وأحكامهم، وسلوكياتهم ــ حتى تلك التي تُمارس بصمت.

لكي نعود إلى نقطة الاتزان الإنساني، نحتاج إلى بعث قيم الرحمة والتعاطف والامتناع الصارم عن الأحكام المسبقة في سلوكنا اليومي، سواء كان ذلك قولًا أو فعلًا، مباشرًا أو ضمنيًا. فقبول الآخر كما هو، دون تصنيف، ليس خيارًا أخلاقيًا وحسب، بل ضرورة لحماية البنية النفسية والاجتماعية لمجتمع يعاني بصمت.

لا تحكم على الآخر، بل انظر إليه بعين المساواة. تذكّر أننا جميعًا نحمل أشكالًا مختلفة من الألم والمعاناة. وقد تكون نظرة عابرة أو إشارة غير مقصودة سببًا في مضاعفة ألم شخصٍ يقف على حافة الانهيار.

وإن كنت في موقع سلطة، كرئيس مباشر أو مسؤول عن موظفين أو طلاب، وبلغتك تقارير صحية أو معلومات شخصية، فاعلم أن أمانة الأسرار لا تقل شأنًا عن أمانة المال أو العِرض. أنت مُكلّف لا مُكرّم، والمجتمع لا يُقاس بعدد قوانينه، بل بقدرته على احترام هشاشة الآخر وصون كرامته.

قال الله تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"
وقال أيضًا: "وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"

ومهما بلغ البشر من قسوة وجفاء، فلا ثبات في مواضع القوة، ولا خلود في مواطن النعمة. فالحياة تتبدل بلحظة، والإنسان، كما قال تعالى، "خُلِقَ ضَعِيفًا". ومن أجل ذلك، علّمنا النبي ﷺ أن ندعو الله قائلين:

"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ."

المراجع:

  1. 2- من حديث: (إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ منكم بَسْطُ الْوَجْهِ..) متوفر على https://binbaz.org.sa/audios/162/12--%D9%85%D9%86-%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%A7%D9%86%D9%83%D9%85-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%B3%D8%B9%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B3-%D8%A8%D8%A7%D9%85%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%85-%D9%88%D9%84%D9%83%D9%86-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%B9%D9%87%D9%85-%D9%85%D9%86%D9%83%D9%85-%D8%A8%D8%B3%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%87 ( تم الدخول يوم 21 يوليو 2025)
  2. 142 من حديث: (يَا أُسامةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟) متوفر على (https://binbaz.org.sa/audios/2406/142-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D9%84%D8%AA%D9%87-%D8%A8%D8%B9%D8%AF%D9%85%D8%A7-%D9%82%D8%A7%D9%84-%D9%84%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87( تم الدخول يوم 21 يوليو 2025)
  3. نظام الوقاية من متلازمة العوز المناعي المكتسب ( الايدز) وحقوق المصابين وواجباتهم. 2018 متوفر لدى https://laws.boe.gov.sa/BoeLaws/Laws/LawDetails/9d240ae2-a709-48ee-ac82-a9ed0119f62d/1 ( تم الدخول 28 يوليو 2025)

مرجع الدراسة النوعية:

Alzahrani NS, Almarwani AM. The effect of HIV on patients’ lives: a phenomenological qualitative study. International Journal of Qualitative Studies on Health and Well-being. 2024 Dec 31;19(1):2315634.